ملح المدينة


سلمان الحميدي

 بعد خمس سنوات من حصار المدينة، كان علي اختراق خط المليشيا، وهو الاختراق الذي يكلفك 60 ألف ريال بعد أن يسامحك صاحب السيارة بعشرين ألف ليكسبك كزبون، علماً أنني كنت أصل المدينة بمائتي ريال عند حدوث أزمات نفطية قبل الحرب.

لن أفصح عن مشاق الطريق، ولكن يمكنني أن أؤكد على حقيقة مهمة، وهو أن الرئيس نفسه بإمكانه أن يصل إلى قلب صنعاء لو دفع لأحد قيادات المليشيا خمسون ألف ريال، ليس بالضرورة أن تعرفوا إن كنت دفعت أم لا؟ وأن تعرفوا القيادي إن كنت فعلت؟ إذ يفترض أن أصف الحالة العاطفية التي تنتاب إنسان ما يرى نقاط المليشيا لأول مرة. 

ولكن في وضع كهذا، لابد للمارة أن يحتفظوا بأسرار الطرقات البعيدة، لا يوجد سبب وجيه لذلك، فالطريق التي تمر بها امرأة لزيارة ابنتها بعد خمس سنوات من الحصار، لا تستحق الوصف، كذلك الطريق التي يمر بها والد يصمم على رؤية ولده الذي استشهد بقذيفة داخل المدينة، لو مر من هذه الطرقات شخصية اعتبارية لاستحقت فصلا من سيرة الأمكنة المهمة تقريباً..

أسهبت في الحديث عن الطريق كما يبدو، ربما لتأثري بطول الطريق ووعورته. ولأنه غير مهم، فأريد الحديث عن مشاعري عندما وصلت المدينة بعد خمس سنوات، إذ رغبت في سجدة العودة وبكاء المحبين بعد فراق، أما الوعثاء، والطاوي الذي يحوم البطن ويحرض المعدة على التهوع، فيذكرك بما هو أسوأ من وصولك المدينة للمرة الأولى عندما كنت طفلاً..
..
قبل أكثر من عشرين سنة، رأيت المدينة لأول مرة، وصلت إلى شارع التحرير عبر سيارة شاص صفراء، كانت سيارة الحداد الراحل، تقف أمام محل يبيع "الدقيق ومستلزماته" إلى جوار طاحون، اسم صاحبه: عبدالله محمد، وكنا ننعته بالطحان، كان الدكان معلما لأبناء العزلة تقريبا، تجده عند أول فتحة من شارع قصير يقولون له "المتحدين"، أو بزقاق التحرير الذين يمكن أن ترى منه "المرباع" حيث يبيع الناس الماشية، مقابل استريو شهير وبائع عطر تضيع روائح بضاعته الطيبة بصنن أبوال الكباش كل خميس.

كان الطحان طيباً، وكان أبي أحد زبائنه الذين يستدينون منه كل شهر، عند استلام الراتب يقضيه والدي لآخر ريال ويستلف بأكثر من المبلغ الذي قضاه، لقد ظل أبي وفيا لهذا الشخص الطيب حتى بعد أن وصل الإسفلت إلى منطقتنا وتحول أبي لشراء التموينات الأساسية من تاجر يوصل البضاعة إلى المنزل. بعد أكثر من سبع سنوات من القطيعة، وقبل سنة تقريبا من الآن، كان عبدالله محمد من القلة الذين زارهم أبي.
..
عندما وصلت المدينة، قبل أسبوعين، قررت زيارة الأمكنة التي رأيتها لأول مرة، وفي كل خطوة تخرج لعنة على المليشيا، وتكبر الضغينة عند كل نَفَس، لقد جعلوني غريبا في مدينتي، وعليه، علي أن أعيد علاقتي بالأمكنة المرتبطة بذكريات من طفولتي: أول شارع عند الطاحون، أول خياط، أول كشك، أول صحيفة، أول مكان اكتشفت فيه البطاط الحنيذ، أول عربية عليها مكبر صوت: حق العشرين بعشرة!.
قررت أن أقتفي خطى أبي، إلى عبدالله محمد.

كان أبي قد حكى لي زيارته لعبدالله محمد الذي لم يعد يذكر الماضي إلا إذا ذكرته بالتفاصيل، لكنه مازال في مكانه في نفس الدكان، والغريب أن الشارع محتفظا بهيئته الأولى: إسفلت مثل طمر تآكلت رقعه..
ذكر أبي وترحما على "الحداد" صاحب السيارة.

ولكن عبدالله محمد لم تعد له بضاعة مثلما كان، وقد تحول دكان الطاحون إلى "حمامات".

سأله أبي عن حركة البيع والشراء، فاشتكى له من كساد السوق، وقال بأنه لم يعد يتاجر بالدقيق والسكر والأرز، صارت المنظمات توزع هذه المواد..
ـ إذن، لماذا تجلس في الدكان؟
ـ باقي الملح! قال عبدالله محمد..
...
خمسة أيام وأنا أذهب إلى المكان لأزوره، ولكني أجد الباب موصدا، كأنه ضَجِرًا من شيء ما، قلت سأكون وفيا وأبلغه سلام أبي غير أني لم أجده. هل تخلى أبناء المدينة عن شراء الملح؟!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر