كأس العالم في القرية


سلمان الحميدي

 كان كأس العالم 2018 من أجمل النسخ مشاهدةً في القرية.
 
ثلاثة أصدقاء كانوا في قطر: كريم الخياطي، وصالح الحقب، ومحمد الجرادي، تكفلوا بجهاز بين سبورت والاشتراك، فزادت محبة أبناء القرية لي وثقتهم بالكاتب الذي يعرفه أصحابه بأنحاء العالم!.
 
اخترنا بيتاً مناسباً بلا سكان وجلسنا فيه، كان أبناء القرية والقرى المجاورة يأتون من كل مكان بمن فيهم كبار السن، وكنا نشاهد المباريات المتتابعة من الظهر وحتى آخر الليل، لم يحدث هذا منذ وصول التلفاز إلى القرية أو منذ نقل بطولات كأس العالم على التلفاز.
 
في النهار نشاهد المباريات في الداخل، أما في الليل فنضع الشاشة على برميل وشبكنا إلى جنباتها سماعات، وجهزنا الأحجار في الخارج لنتكئ عليها، نشعر بمتعة أكبر من الجماهير الحاضرة في الملعب باستثناء المنتصرين الملاصقين للحسناوات في المدرجات المزدحمة.
 
في كأس العالم 2018، لم يسقط أحد من أبناء القرية من سقف منزله وهو يقوم بتدوير الصحن/ الستلايت، أو يتنمل ساعد شخص وهو يبحث عن معلق عربي في المذياع ليشاهد أو يسمع من النسخة كلها أربع أو خمس مباريات.
 
النقلة تلك، جعلت أصحاب البلاد ينظرون إليّ بمحبة بالغة، باعتباري جالب متعة المشاهدة من ثاني مباراة إلى ما بعد الختام، عاتبوني على مباراة الافتتاح وأوضحت لهم أنها تزامنت مع موعد الإفطار في آخر يوم من رمضان، ومع إني جهزت الكثير من العشاء احتمالاً لمجيئهم، ولكن لم يأت غير اثنين.
 
في 2018 اجتمع أبناء القرية والقرى المجاورة لها بألفة، وبشكل غير مألوف لمدة شهر، لم يسعهم المكان، وعجت بهم الساحة الأمامية للمنزل الخالي من السكان، جعلتهم البطولة يضحكون ويتهكمون ويستمتعون، ويصومون الست من شوال أيضاً.
 
في كأس العالم الذي أقيم بروسيا شاهد أبناء قريتي، لأول مرة، بطولة دون انقطاع، مباريات متتابعة بجودة عالية ومعلق أصلي ملازم للصورة، لم يحدث أن شاهدوا مباراتين متتاليتين في يوم واحد غير بنسخة روسيا، وكان "سفير" ــ وهو مشجع رياضي لا يعرف أسماء اللاعبين ولا أسماء البلدان ويعرف فريقه باللون ــ يتفاعل من كل جوارحه مع الكرة، ويقول ونحن نتجهز لمغادرة المكان: «أشبعك واسلمان مثلما اشبعتنا مباريات».
 
منذ أكثر من شهر يتواصل معي أبناء القرية، ومع كل اتصال تدور الذكريات ونتنهد! إذ كان الوعد أن تكون نسخة 2022 أفضل: المكان سيتسع، حجم الشاشة سيزيد، سنستغل المناسبة لمزيد من التآلف، ومعرفة بعضنا أكثر، إذ اكتشفنا أنفسنا أكثر من خلال المخالطة في بطولة 2018.
 
لكننا الآن اكتشفنا مبالغتنا عندما تخيلنا ما سنكون عليه في 2022،  يسألني أبناء القرية: كيف اشتعملنا هذي السنة؟!
 
الوضع المعيشي في القرى الواقعة تحت سيطرة الحوثي ينحدر للأسوأ، حتى ملاك الوديان صاروا يضاربون على اللقمة، أخبرتهم أن يصبروا قليلاً، لدي عمل «إن سبر، شانجزه واشترك لكم مش بكأس العالم بس، وبقية الكؤوس» أو إن تمكنتم أن تشتركوا فسأرسل الجهاز في الحال، لا هم ولا أنا يعرفون قيمة الاشتراك!.
 
منذ أسبوع لم يتصل بي أحد ولم أتصل بأحد، كل يعرف حال الآخر، نتشاطر خجل العجز وسوء الوضع. تأجل اتفاقي بخصوص العمل وزادت أحوالهم صعوبةً، لم يعاتبوني، أو يقل مقدار محبتهم تجاهي، وأنا لم أوضح لهم حالتي. الليلة علمت أنهم يبذلون قصارى جهدهم لقلب الصحن.
 
أثق أن نسخة كأس العالم في قطر ستكون من أفضل النسخ على الإطلاق في تاريخ البطولة، لكن من وجهة نظر قريتنا ليست كذلك، ليس الاشتراك وحده المشكلة، فهناك مباريات ستبث مجاناً، والصحن المقلوب قد ينجح بالتقاط بعض المباريات، ليست كذلك لأننا كأبناء قرية صرنا بعيدين ومشتتين، ووضعنا أسوأ بكثير مما كان عليه في 2018، ومع ذلك الشغف والأمل باقيين.
 
إن شاء الله النسخة القادمة معوضين بشاشة سع نص الجدار..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر