طفلة الحرب عنوان


مصطفى ناجي

كلما وقعت عيناي على قصيدة شعرية او مقال ثقافي او مقالة فلسفية، أزحتها جانباً وقلت في نفسي:"مُش وقتُه الآن".
بل إني أقطع استماع أو مشاهدة مقاطع الفيديو وحتى الأغاني بعد ثلاث دقائق على الأكثر.
 
قبل أشهر كنت ألجأ إلى مشاهدة مقاطع فيديو خاصة بالطبخ، لكنني بعد أسابيع "طِفِشتُ" وتوقفت عن المتابعة وخنقت ميولي نحو المطبخ.
 
اشعر حقاً أني مجهد. وأدرك عمق التشوهات الداخلية على صعيد الذائقة أو التفكير او الحب والتعاطف والامتنان نتيجة لامتحان الجهد الذي لم يتوقف منذ ????. لكن سبتمبر ???? كان أكثر الشهور حاملا للصدمات منذ ان اقتحم الحوثيون صنعاء وغرقت البلاد في جحيم مفتوح وانطلق قطار زمن اليمنيين مسافرا قسرا عبر الزمن الى قرون الظلام والعبودية.
 
احمد الله كثيرا اني أبات إلى فراشي ولست جائعا. لكن الجوع ذكرى لجوجة كلما نسيتها ذكرتني بها حالات اهلي وأصدقائي وكل اليمنيين المعذبين في هذه الحرب.
 
فكرت مرارا في هجران هذا العالم الأزرق لأنه اجهدني وحملني فوق ما احتمل. كلما فتحت صفحتي العامة وجدت صورا لأشلاء منثورة، وطفل مقنوص او ام ثكلي او تذكير بسجين او مفقود في السجون والأقبية والدياجير.
 
ووجدت نزيفا للضمير في اليمنيين، وتلاشيا للمُثل وحقدا ونكايات وارتهانا وتزلفا وكذبا وأحلاما وضيعة.
 
كتبت قبل عامين أنى لا اتصفح الفيس الا في مختلي خاص وليس في مطعم او ميترو او باص او اي مكان يمكن فيه لمن يقف جواري ان يطالع صفحتي.
 
انها الآم لا تُشارك. وحالة مرضية حقيقية ان نعتاد الموت والالم والفقدان. في البيت افعلها. وقد سألني ابني: ابي! لماذا كلما جلست الى هاتفك كشرت ووجمت؟
 
انتشلني من بين الصور والمنشورات الدامية والباكية. ابتسمت في وجهه وقلت له: لأنييييي...
ولم أجد الجواب عجزا ورفقا به.
 
منذ الحرب، فقدت أصدقائي العرب. وقبلها فقدت أصدقائي الأجانب. لاني اتابع أناس على شاكلتي وقد أعفت لوغاريتمات الفيسبوك الأجانب وبعض العرب من متابعة هذا الشقاء اليومي.
 
لست مجهدا من المعركة. انها أقدارنا التي لم نختارها. انا مجهد لاني فقدت الثقة. ولأن مشروعية احلامنا تضيع على يد دُمى ونمور السجاديد. أناس جاءوا في غفلة من التاريخ وتقمصوا دور الرجال ذوي البأس.
 
في مهاتفة انترنيتية تحدث أبني الأكبر الى خاله. تحدث بغربة مقصومة الحال مشروخة اللغة. سأله خاله: متى سنراك؟ متى ستجيئ إلينا؟
اختنقنا بالسؤال نحن على السكة. ستة كنا. خمسة هنا والخال هناك في اليمن البعيد القريب.
 
قبل أسابيع استوقفني الابن الثاني بلا دافع وسأل: أبي! متى ستنتهي الحرب في اليمن؟ نظرت في عينيه وصِمتُ عن الإجابة.
 
ها نحن نتابع العناوين. الفرح عنوان. الموت عنوان. القرب عنوان. الحزن عنوان. البعد عنوان. العيد عنوان. الانتصار عنوان. الوطن عنوان. الحب عنوان. الإخوة عنوان. الجوع عنوان.
 
قبل ثلاث ساعات، كنت مع ابني إياد وهو كثير الأسئلة: قال مؤكداً: أبي! المستقبل هو حدث لم يقع. نحن في الحاضر وتقع الأحداث وفِي الماضي تكون قد جرت. لكن في المستقبل لم تحدث الاحداث.
 
الوغد! ألقمني حجر الصمت والدهشة. قلت في نفسي. نحن من اليمن. المستقبل هو الذي لن يأتي.
 
 
*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر