وقوفاً مع أبو يعرب المرزوقي


نبيل البكيري

يُعدّ أبو يعرب المرزوقي من آخر الفلاسفة في العالم العربي والإسلامي، الذين ظلوا حاملين مشاعل التنوير ومواجهة التزوير والاستبداد في كل المراحل التي عاشوا فيها، ذوي مواقف واضحة لم تتبدل تجاه كل مظاهر الظلم والقهر والاستبداد في المنطقة العربية. ظلّ، طوال مشواره الفكري والفلسفي والأكاديمي، إنتاجا وتأليفاً وبحثاً وتدريساً وترجمةً، وفياً لهذه المهمة التنويرية التي من خلالها أثرى المشهد الفلسفي العربي بأطروحات وكتابات عديدة حاولت إعادة الاعتبار إلى الدرس الفلسفي العربي، في واقع عربي متخلف ومعقد ومتراجع على كل المستويات، وفي القلب منها حالة الموات للفلسفة العربية المعاصرة. 

  

لم يتعّلل أبو يعرب بالانشغال الأكاديمي ليتعايش مع الاستبداد، بل خاض غمار السياسة والبحث والأكاديميا معاً، وهو حامل هموم أمته وشعبه ورسالته في مواجهة التزوير الذي يجيده عديدون من حملة مباخر الإستعمار والاستبداد العربي المعاصر، من أكاديميين ومفكرين وأدعياء كثر ممن يشتغلون في تجميل قبائح الظلم والاستبداد وكهنته قديما وحديثا. 

  

يدرك قيس سعيّد جيدا أنه مكشوف وعاجز عن المواجهة وجها لوجه مع أبي يعرب المرزوقي، لما يمتلك الرجل من نظافة اليد وصفاء الضمير ويقظته 

  

أما فلسفيا، فأبو يعرب اليوم، بمنهجه وخطه، بات يشكل مدرسة تستلهم فلسفتها من واقع الناس وحاجاتهم وهمومهم وقضاياهم ومصيرهم، وليس من بطون الكتب ومعارك داحس والغبراء أو سفسطائيات الفلسفات العقيمة التي يهرُب إليها المتفلسفون عن مواجهة ما تمليه عليهم روح الفلسفة وأمانتها، التي تهدف إلى صون كرامة الإنسان وحريته وتحقيق سعادته ورفاهه في الدنيا والآخرة. ولهذا ظل أبو يعرب في قلب الأحداث حاضرا، وموجها وصانعا مواقف كثيرة تتطلبها هذه اللحظة العربية التي توجب على من يظن الناس فيهم القدوة والقدرة قول الحقيقة مجرّدة من شيء آخر، الحقيقة في ما يتعلّق بحاضرهم اليوم ومستقبلهم في الغد، وكيف يمكنهم مواجهة كل هذا القبح والزيف والدجل والتطبيل للظالمين والمستبدّين، وكيف يمكنهم الخلاص من كل هذا الواقع المثقل بالتخلف والاستبداد. 

  

ليست المقالة هنا بصدد مكانة أبو يعرب التي لا يجهلها مطّلع اليوم، ولا عن إنجازاته وإبداعاته التي رفدت المشهدين الفلسفي والفكري العربيين المعاصرين بدراسات وكتب وأبحاث كثيرة وقيمة، وإنما تقف عند المحنة التي يراد أن يساق إليها هذا الفيلسوف، الكبير قدرا ومكانة في العالمين العربي والإسلامي، فقد استدعته أخيرا المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة في تونس، والتي أحالت القضية إلى محكمة القضاء العدلي لانتفاء الصبغة العسكرية للقضية، ما يجعلنا نقف أمام جريمة استهداف الفيلسوف، ومصادرة حريته العصية على التدجين والترويض، ومحاولة تركيعة بطريقة مكشوفة وسخيفة لا يخافها الرجل الحكيم والصلب، والذي لم يُنكر أقواله ومواقفه التي أعلنها في أكثر من مقابلة وتغريدة له. 

   

يدرك قيس سعيّد جيدا أنه مكشوف وعاجز عن المواجهة وجها لوجه مع أبي يعرب المرزوقي، لما يمتلك الرجل من نظافة اليد وصفاء الضمير ويقظته، عدا عن نزاهته وصلابة موقفه، وحضوره المهيب علما ومكانة في قلوب الناس، وأنه يتكلم بلسان الناس جميعا، وإن لم يدّع ذلك، الناس الذين يرون أن الطريقة التي يقود بها سعيّد تونس اليوم لن تؤدّي سوى إلى الجحيم، فكل المؤشّرات تقول إن الرجل مصاب بمرض الديكتاتورية القاتل، الداء الذي تحرّر منه التوانسة، وكسروا حاجز الخوف منه في واحدةٍ من أعظم الثورات السلمية. 

  

ولهذا كله يجد أبو يعرب نفسه في واجهة المشهد، شاهرا سيف الحقيقة أمام كذب الجلاد وزيفه وإدعاءاته، مستمدّا صموده وثباته من إيمانه الحقيقي بأن هذا الجلاد ضعيف وهش، وإيمان أبي يعرب المطلق بالحقيقة وبالحرية وثمنها الكبير ديْنا يجب أن يؤدّيه القادرون عليها، والمؤمنون بها، الحرية التي تقف في ظلها لا تخاف شيئا، ما دمت تمضي في صالح الناس، ومن أجل حرياتهم وكرامتهم. 

  

يقف أبو يعرب اليوم لا يهاب شيئا، مستمدّا كل هذا الصمود والجرأة في هذه المواجهة من إيمانه برسالته فيلسوفا وإنسانا، لا يمكن أن يصادر أحدٌ حقّه في الحرية والكرامة، هذا الإيمان الذي يخونه أدعياء كثيرون اليوم يتخذون الفلسفة مجرّد وظيفة ببغاوية يهدرون بها أوقاتهم في قاعات الدرس وشاشات الحديث والتنظير البعيد كل البعد عن جوهر هذه الفلسفة التي تسعى إلى تحرير الإنسان من وهم الخوف، بحسب أبيقور ومن بعده أسبنيوزا وتعريفهما للفلسفة. 

   

العدو الحقيقي للاستبداد اليوم ليس قوة أعداء الاستبداد المادية، وإنما قوتهم المعنوية، المتمثلة بفضيلة الحقيقة وقداستها، كما هو أيضا الوعي بقداسة هذه الحياة، والوعي برسالية الفيلسوف والمثقف وعظمة دوره في مواجهة اختلالات اللحظة وفسادها وعطب الذات وموت الضمير، وكثرة الأدعياء والمطبّلين، هذا الدور الذي يعيد لنا أستاذنا أبو يعرب المرزوقي تجديده وفتح انسداداته ورسم ما اندرس منه في تاريخنا الطويل في مصارعة الاستبداد، العدو الذي أخّر العرب والمسلمين قرونا عن ركب الحضارة، وأحدث قطيعة كبرى عن مسار الحضارة الإسلامية الأولى. 

  

إننا مدينون بالكثير لما قدّمه لنا فيلسوفنا، ولهذا وجب أن نقف بجانبه، كي نقف مع أنفسنا أولا، في مواجهة عودة الاستبداد برداء ديمقراطي زائف، تكشف عن ديكتاتورية بائسة ومريضة وهزيلة، تحاول أن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، بعد كل الدماء والتضحيات العظيمة في سبيل الحرية والكرامة. 

  

تضامننا الكبير مع أبي يعرب في محنته هذه، التي هو أقوى منها ومن كل المؤامرات ضده لإسكاته، وإجباره على التطبيع مع القطيع والرضى بهذا الوضع الشاذّ الذي تُراد شرعنته، وإجبار الناس على التعايش معه، وثقتنا أكبر بأحرار العالم أيضا برفع صوتهم عاليا في وجه العته الذي يرتكبه دكتاتور قرطاج. 

 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر